الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين **
عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ! نهطت الأنفس، وجاع العيال، وهلكت استشفع بالشيء، أي: جعله شافعا له، والشفاعة في الأصل: جعل الفرد شفعا، وهي التوسط، للغير بجلب منفعة له أو دفع مضرة عنه. أن الاستشفاع بالله على خلقه تنقص لله - عز وجل- لأنه جعل مرتبة الله أدنى من مرتبة المشفوع إليه، إذ لو كان أعلى مرتبة ما احتاج أن يشفع عنده، بل يأمره أمرا والله - عز وجل - لا يشفع لأحد من خلقه إلى أحد، لأنه أجل وأعظم من أن يكون شافعا، ولهذا أنكر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذلك على الأعرابي، وهذا وجه وضع هذا الباب في كتاب التوحيد. قوله: (أعرابي). واحد الأعراب، وهم سكان البادية، والغالب على الأعراب الجفاء، لأنهم أحرى أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله. قوله: (نهكت الأنفس). (نهكت)، أي: ضعفت. قوله: (جاع العيال وهلكت الأموال)، أي: من قلة المطر و الخصب، فضعف الأنفس بسبب ضعف القوة النفسية والمعنوية التي تحصل فيها إذا لم يكن هناك خصب، وجاع العيال لقلة العيش، وهلكت الأموال، لأنها لم تجد ما ترعاه. الأموال، فاستسق لنا ربك، فإنا نستشفع با الله عليك، وبك على الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (سبحان الله سبحان الله) فما زال يسبح حتي عرف ذلك في وجوه أصحابه، ثم قال: (ويحك أتدري ما الله !) إن شان الله أعظم من ذلك إنه لا يستشفع با لله على أحد من خلقه........)) وذكر الحديث. رواه أبو داوود [أبو داوود: كتاب السنة / باب في الجهمية وابن خزيمة في التوحيد، (147) وابن ابي عاصم في السنة (575) وصححه العلامة ابن القيم في تهذيب السنن (7/96). ] قوله: (فاستق لنا ربك). أي: اطلب من الله أن يسقينا، وهذا لا بأس به، لأن طلب الدعاء ممن ترجى أجابته من وسائل إجابة الدعاء. قوله: (نستشفع بالله علي): أي: نجعله واسطة بيننا وبينك لتدعو الله لنا، وهذا يقتضي أن جعل مرتبة الله في مرتبة أدنى من مرتبة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ. قوله: (ونستشفع بك على الله) أي: نطلب منك أن تكون شافعا لنا عند الله، فتدعو الله لنا، وهذا صحيح. قوله: (سبحان الله، سبحان الله). قاله رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ استعظاما لهذا القول، وإنكارا له، وتنزيها لله - عز وجل - عما لا يليق به من جعله شافعا بين الخلق وبين الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ. و(سبحان): اسم مصدر منصوب على أنه مفعول مطلق من سبح يسبح تسبيحا، وإذا جاءت الكلمة بمعنى المصدر وليس فيها حروفه، فهي اسم مصدر، مثل: كلام اسم مصدر كلم والمصدر تكليم، ومثل سلام اسم المصدر سلم والمصدر تسليم. (وسبحان): مفعول مطلق، وهو لازم النصب وحذف العامل أيضا، فلا يأتي مع الفعل، فلا تقول: سبحت الله سبحانا إلا نادرا في الشعر ونحوه. والتسبيح: تنزيه الله عما لا يليق به من نقص، أو عيب، أم مماثلة للمخلوق، أو ما أشبه ذلك. وإن شئت أدخل مماثلة المخلوق مع النقص والعيب، لأن مماثلة الناقص نقص، بل مقارنة الكامل بالناقص تجعله ناقصا، كما قال الشاعر: قوله: (فما زال). إذا دخلت (ما) على زال الذي مضارعها يزال، صار النفي ثابتا مفيدا للاستمرار، كقوله تعالى: وجملة (يسبح): خبر زال. قوله: (حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه). أي: عرف أثره في وجوه أصحابه، وأنهم تأسوا بذلك، لأنهم عرفوا أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يسبح في مثل هذا الموضع ولا يكرره إلا لأمر عظيم، ووجه التسبيح هنا أن الرجل ذكر جملة فيها شيء من النقص لله تعالى، فسبح النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ربه تنزيها له عما توهمه هذه الكلمة، ولهذا كان الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه في السفر إذا هبطوا واديا سبحوا، تنزيها لله تعالى عن السفول الذي كان من صفاتهم، وإذا علوا نشزا كبروا، تعظيما لله - عز وجل - [البخاري: كتاب الجهاد / باب التسبيح إذا هبط واديا.] وأن الله تعالى هو الذي له الكبرياء في السموات والأرض. قوله: (ويحك). ويح: منصوب بعامل محذوف، تقديره ألزمك الله ويحك. وتارة تضاف، فيقال: ويحك، وتارة تقطع عن الإضافة، فيقال: ويحا لك، وتارة ترفع على أنه مبتدأ، فيقال: ويحه أو ويح له. وهي وويل وويس كلها متقربة في المعنى. ولكن بعض علماء اللغة قال: إن ويح كلمة ترحم، وويل كلمة وعيد. فمعنى ويحك: إني أترحم لك وأحن عليك. ومنهم من قال: كل هذه الكلمات تدل على التحذير. فعلى معنى أن ويح بمعنى الترحم يكون قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لهذا الرجل ترحما لهذا الرجل الذي تكلم بهذا الكلام، كأنه يعرف قدر الله. قوله: (أتدري ما الله). المراد بالاستفهام التعظيم، أي: شأن الله عظيم، ويحتمل أن المعنى: لا تدري ما الله، بل أنت جاهل به، فيكون المراد بالاستفهام النفي. وقوله: (ما الله). جملة استفهامية معلق ل(تدري) عن العمل، لأن درى تنصب مفعولين، لكنها تعلق بالاستفهام عن العمل وتكون الجملة في محل نصب سدت مسد مفعولي تدرى. قوله: (إن شاء الله أعظم من ذلك). أي: إن أمر الله وعظمته أعظم مما تصورت حيث جئت بهذا الفظ. قوله: (إنه لا تستطيع بالله على أحد) أي: لا يطلب منه أن يكون شفيعا إلى أحد، وذلك لكمال عظمته وكبريائه، وهذا الحديث فيه ضعف، ولكن معناه صحيح، وأنه لا يجوز لأحد أن يقول: نستشفع بالله عليك. فإن قيل: أليس قد قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ]، وهذا دليل على جواز السؤال بالله جائزا لم يكن إعطاء السائل واجبا؟ والجواب أن يقال: إن السؤال بالله لا يقتضي أن تكون مرتبة المؤول به أدنى من مرتبة المسؤول بخلاف الاستشفاع، بل يدل على أن مرتبة المسؤول به عظيمة، بحيث إذا سئل به أعطي. على أن بعض العلماء قال: (من سألكم بالله)، أي: من سألكم سؤالا بمقتضى شريعة الله فأعطوه، وليس المعنى من قال: أسألك بالله. والمعنى الأول أصح، وقد ورد مثله في قول الملك: ]. * * * * فيه مسائل: * الأولى: إنكاره على من قال (نستشفع بالله عليك) تؤخذ من قوله: * الثانية: تغيره تغيرا عرف في وجوه أصحابه من هذه الكلمة. تؤخذ من قوله: * الثالثة: أن لم ينكر عليه قوله: (نستشفع بك على الله). لأنه قال: لا يستشفع بالله على أحد، فأنكر عليه ذلك، وسكت عن قوله: (نستشفع بك على الله)، وهذا يدل على جواز ذلك، وهنا قاعدة هي: (إذا جاء في النصوص ذكر أشياء، فأنكر بعضها وسكت عن بعض، دل على أن ما لم ينكر فهو حق، مثال ذلك قوله تعالى: * الرابعة التنبيه على تفسير (سبحان الله). لأن قوله: (إن شاء الله أعظم) دليل على أنه منزه عما ينافي تلك العظمة. * الخامسة: أن المسلمين يسألونه الاستسقاء. وهذا في حال حياته، أما بعد وفاته فلم يكونوا يفعلونه، لأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ انقطع عمله بنفسه وعبادته، ولهذا لما حصل الجدب في عهد عمر بن الخطاب رضى الله عنه استسقى بالعباس، فقال: وبهذا نعرف أن القصة المروية عن الرجل العتبي الذي كان جالسا عند قبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فجاء أعرابي، فقال: السلام عليكم يا رسول الله سمعت الله يقول: نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه ** فيه العفاف وفيه الجود والكرم ثم انصرف، قال العتبي: فغلبتني عيني، فرأيت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في النوم، فقال: ياعتبى، بشر الأعرابي أن الله قد غفر له. فهذه الرواية باطلة لا صحة لها، لأن صاحبها مجهول، وكذلك من رواها مجهولون، ولا يمكن أن تصح، لأن الآية: ومن فوائد الحديث: 1- 1- أنه ينبغي أن يقدم الإنسان عند الطلب الأوصاف التي تستلزم العطف عليه، لقوله: (نهكت الأنفس). 2- 2- الترحم على المذنب إذا قلنا: إن (ويح) للترحم.
|